فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَرَأَ حَمْزَةُ {وَرَحْمَةٍ} بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى {خَيْرٍ} قِيلَ فِي مَعْنَاهُ: أَيْ: هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ وَرَحْمَةٍ لَكُمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا لَمَا فُصِلَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ بِقَوْلِهِ: {يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} بَلْ هُوَ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ، وَالتَّقْدِيرُ: أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ كَافَّةً. وَأُذُنُ رَحْمَةٍ لِلَّذِينِ آمَنُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، فَكُلُّ مَا فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ أَنَّ لِينَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَلُطْفَهُ وَإِلْقَاءَهُ السَّمْعَ إِلَى مُحَدِّثِهِ، وَعَدَمَ مُعَامَلَتِهِ بِمُقْتَضَى سِرِّهِ وَسَرِيرَتِهِ، هُوَ خَيْرٌ لِلْمُنَافِقِينَ مِنْ عَدَمِهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُعَامِلَهُمْ بِمَا يُخْفُونَ مِنَ الْكُفْرِ لَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بِقَطْعِ رِقَابِهِمْ، وَبَقَاؤُهُمْ خَيْرٌ لَهُمْ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ لَفْظِ الْخَيْرِ، وَخَيْرٌ لَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ إِمْهَالٌ لَهُمْ يُرْجَى أَنْ يَتُوبَ بِسَبَبِهِ مَنْ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ لِلْإِيمَانِ مِنْهُمْ بِمَا يَرَاهُ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَالْخَيْرِيَّةُ دُنْيَوِيَّةٌ وَهِيَ لِلْجَمِيعِ، وَالرَّحْمَةُ دُنْيَوِيَّةٌ وَأُخْرَوِيَّةٌ وَإِنَّمَا هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا إِرْسَالُهُ صلى الله عليه وسلم رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ؛ فَالْمُرَادُ بِهِ عُمُومُ دَعْوَتِهِ وَهِدَايَتِهِ، لَا أَنَّهُ رَحْمَةٌ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ كَمَنْ آمَنَ بِهِ.
وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فَهُوَ مُقَابِلُ قَوْلِهِ: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيذَاءَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ يُنَافِي الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرَّحْمَةِ، فَجَزَاؤُهُ ضِدُّ جَزَائِهِ وَهُوَ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ الْإِيلَامِ، وَفِي إِضَافَةِ الرَّسُولِ إِلَى اسْمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِيذَانٌ بِأَنَّ إِيذَاءَهُ إِيذَاءً لِمُرْسِلِهِ أَيْ: سَبَبٌ لِعِقَابِهِ، كَمَا أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لَهُ وَسَبَبٌ لِثَوَابِهِ {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} (4: 80) وَقَوْلُهُ: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ هِيَ خَبَرٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَفِي هَذَا تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِهَا.
الْآيَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِيذَاءَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كُفْرٌ إِذَا كَانَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ الرِّسَالَةِ؛ فَإِنَّ إِيذَاءَهُ فِي رِسَالَتِهِ، يُنَافِي صِدْقَ الْإِيمَانِ بِطَبِيعَتِهِ، وَأَمَّا الْإِيذَاءُ الْخَفِيفُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَادَاتِ وَالشُّئُونِ الْبَشَرِيَّةِ فَهُوَ حَرَامٌ، لَا كُفْرٌ، كَإِيذَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُطِيلُونَ الْمُكْثَ فِي بُيُوتِهِ عِنْدَ نِسَائِهِ بَعْدَ الطَّعَامِ فَنَزَلَ فِيهِمْ: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا} (33: 53) وَقَالَ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ فِي نِدَائِهِ وَيُسَمُّونَهُ بِاسْمِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (49: 2) فَهَذِهِ آدَابُ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ مَعَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي التَّقْصِيرِ فِيهَا خَطَرُ حُبُوطِ الْأَعْمَالِ بِدُونِ شُعُورٍ مِنَ الْمُقَصِّرِ.
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ إِيذَاءَهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ انْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، كَإِيذَائِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ الدُّنْيَا، وَمِنْهُ نِكَاحُ أَزْوَاجِهِ مِنْ بَعْدِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْهُ الْخَوْضُ فِي أَبَوَيْهِ وَآلِ بَيْتِهِ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤْذِيهِ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوهُ ذَنْبًا لَا كُفْرًا، وَلَاشَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ صلى الله عليه وسلم مَانِعٌ مِنْ تَصَدِّي الْمُؤْمِنِ لِمَا يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ أَنْ يُؤْذِيَهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِيذَاءً مَا. وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا كُلُّ مَا يُؤْذِي أَحَدًا مِنْ سَلَائِلِ آلِهِ وَعِتْرَتِهِ بِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّنَازُعِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالْجِنَائِيَّةِ وَالْمُخَاصَمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ: لِأَنَّ مِنْهَا مَا يَكُونُ فِيهَا الْمَنْسُوبُ إِلَى الْآلِ الْكِرَامِ جَانِيًا آثِمًا وَمُعْتَدِيًا ظَالِمًا. وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} (4: 148) وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا وَسَبَبُهُ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَجُلًا تَقَاضَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ: «دَعُوهُ إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا...» الْحَدِيثَ. وَهَذِهِ فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِهِ بَلْ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ كَمَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ قَدْ تَأَذَّتْ مِنَ الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ الَّذِي كَانَ أَحَبَّ الرِّجَالِ إِلَيْهِ، كَمَا كَانَتْ أَحَبَّ النِّسَاءِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْطِهَا مَا ظَنَّتْ مِنْ مِيرَاثِهَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَعُذْرُهُ أَنَّهُ مُنَفِّذٌ لِأَمْرِهِ وَمُقِيمٌ لِشَرْعِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَهُ صلى الله عليه وسلم بِنُطْقِ فَمِهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ وَمَا تَرَكُوهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ، فَعَمَلُهُ بِوَصِيَّتِهِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّ إِيذَاءً لَهُ، فَتَأَذِّيهَا عَلَيْهَا السَّلَامُ، لَمْ يَكُنْ عَنْ إِيذَاءٍ مِنْهُ عَلَيْهِ الرِّضْوَانُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَعْذُورٌ، فَمَاذَا يَقُولُ بَعْدَ هَذَا فِيمَنِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ مِنْ مُدَّعِي هَذَا النَّسَبِ الشَّرِيفِ بِحَقٍّ وَبِغَيْرِ حَقٍّ، كَغُلَاةِ الشِّيعَةِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْ فَاطِمِيَّةِ مِصْرَ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ أَسَّسُوا جَمْعِيَّاتِهِمُ السِّرِّيَّةَ لِمَحْوِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَرْضِ، مِنْ طَرِيقِ دَعْوَى عِصْمَةِ أَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَبَيَّنَّاهُ مِرَارًا؟ هَلْ يُقَالُ: إِنَّ مَنْ يُؤْذِيهِمْ يُعَدُّ مُؤْذِيًا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ أَعْدَى أَعْدَائِهِ، وَأَخْبَثُ الْمُفْسِدِينَ لِدِينِهِ؟ وَمَنْ دُونَهُمْ مُبْتَدِعَةُ الرَّوَافِضِ، وَخُرَافَاتُهُمْ مَعْرُوفَةٌ، وَجِنَايَاتُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، عَلَى أَنَّ مَنْ آثَرَ الْأَدَبَ مَعَ أَحَدٍ مِنْ آلِ الرَّسُولِ عَلَى حَقِّهِ الشَّخْصِيِّ حُبًّا لَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ إِيمَانِهِ كَمَا فَعَلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْمُعْتَصِمِ الْعَبَّاسِ لِقَرَابَتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْحَقَّ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْآلِ وَالْأَبَوَيْنِ الطَّاهِرَيْنِ فِي تَفْسِيرِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} (6: 74) الْآيَاتِ. فَتُرَاجَعُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [ط الْهَيْئَةِ].
{يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}.
رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَالَ فِي شَأْنِ الْمُتَخَلِّفِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ مَا نَزَلَ: وَاللهِ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَخِيَارُنَا وَأَشْرَافُنَا، وَإِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقًّا لَهُمْ شَرٌّ مِنَ الْحُمُرِ. فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: وَاللهِ إِنَّ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ لَحَقٌّ، وَلَأَنْتَ أَشَرُّ مِنَ الْحِمَارِ. فَسَعَى بِهَا الرَّجُلُ إِلَى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الرَّجُلِ فَدَعَاهُ فَقَالَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي قُلْتَ»؟ فَجَعَلَ يَلْتَعِنُ (أَيْ يَلْعَنُ نَفْسَهُ) وَيَحْلِفُ بِاللهِ مَا قَالَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ يَقُولُ اللهُمَّ صَدِّقِ الصَّادِقَ وَكَذِّبِ الْكَاذِبَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ: يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ، الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ مِثْلَهُ، وَسَمَّى الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ عَامِرَ بْنَ قَيْسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ.
وَهَذَا لَيْسَ بِحَصْرٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَاذِبِينَ مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يُكْثِرُوا الْحَلِفَ لِيُصَدَّقُوا؛ لِأَنَّهُمْ لِعِلْمِهِمْ بِكَذِبِهِمْ يَظُنُّونَ أَوْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَيَحْلِفُونَ لِإِزَالَةِ التُّهْمَةِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ (42) مِنْ هَذَا السِّيَاقِ حَلِفُهُمْ أَنَّهُمْ لَوِ اسْتَطَاعُوا الْخُرُوجَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لَخَرَجُوا، وَالتَّصْرِيحُ بِعِلْمِ اللهِ بِكَذِبِهِمْ فِي حَلِفِهِمْ هَذَا- وَفِي الْآيَةِ (56) مِنْهُ {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ}. إِلَخْ. وَسَيَأْتِي فِي آيَةِ (74) مِنْهُ مِثْلُ هَذَا الْحَلِفِ عَلَى قَوْلٍ مِنَ الْكُفْرِ قَالُوهُ إِنَّهُمْ مَا قَالُوهُ، وَفِي آيَاتِ 59 و96 و107 مِنْهُ نَحْوٌ مِنْ ذَلِكَ.
فَقوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي بَعْضِ شُئُونِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ مَعَهُمْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُمْ شَعَرُوا بِمَا لَمْ يَكُونُوا يَشْعُرُونَ مِنْ ظُهُورِ نِفَاقِهِمْ، فَكَثُرَ اعْتِذَارُهُمْ وَحَلِفُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ بِهِ مِنْ قَوْلٍ وَعِلْمٍ؛ لِيُرْضُوهُمْ فَيَطْمَئِنُّوا لَهُمْ، فَتَنْتَفِي دَاعِيَةُ إِخْبَارِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُنْكِرُونَ مِنْهُمْ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ أَحَقُّ بِالْإِرْضَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ يُصَدِّقُونَهُمْ فِيمَا يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذِبُهُمْ فِيهِ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِالْيَقِينِ، وَلَكِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَهُوَ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، وَهُوَ يُوحِي إِلَى رَسُولِهِ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ.
وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: يُرْضُوهُمَا وَنُكْتَةُ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى: {يُرْضُوهُ} الْإِعْلَامُ بِأَنَّ إِرْضَاءَ رَسُولِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَسُولُهُ عَيْنُ إِرْضَائِهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ إِرْضَاءٌ لَهُ فِي اتِّبَاعِ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، وَهَذَا مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ فِي الْإِيجَازِ، وَلَوْ قَالَ: (يُرْضُوهُمَا) لَمَا أَفَادَ هَذَا الْمَعْنَى؛ إِذْ يَجُوزُ فِي نَفْسِ الْعِبَارَةِ أَنْ يَكُونَ إِرْضَاءُ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ مَا يَكُونُ بِهِ إِرْضَاءُ الْآخَرِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُرَادِ هُنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ: وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ لَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَفِيهِ مَا فِيهِ مِنَ الرَّكَاكَةِ وَالتَّطْوِيلِ، وَقَدْ خَرَّجَهُ عُلَمَاءُ النَّحْوِ عَلَى قَوَاعِدِهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ كَأَبِي السُّعُودٍ: إِنَّ الضَّمِيرَ الْمُفْرَدَ هُنَا يَعُودُ إِلَى مَا فُهِمَ مِمَّا قَبْلَهُ الَّذِي يُفَسَّرُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ مَا ذُكِرَ كَقَوْلِ رُؤْبَةَ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ** كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ

يَعْنِي كَأَنَّ ذَلِكَ أَوْ كَأَنَّ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ ضَعِيفٌ لَا يَظْهَرُ فِي الْمُثَنَّى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَيُقَدَّرُ مِثْلُهُ لِلرَّسُولِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لِلرَّسُولِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إِيذَائِهِ، وَهُوَ أَضْعَفُ مِمَّا قَبْلَهُ، وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ إِلَى قَوَاعِدِهِمْ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ: الْكَلَامُ جُمْلَتَانِ حُذِفَ خَبَرُ إِحْدَيْهِمَا لِدَلَالَةِ خَبَرِ الْأُخْرَى عَلَيْهِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْـ ** دَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ

فَهَذَا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ التَّرْكِيبِ الْعَرَبِيِّ، وَلَكِنْ تَفُوتُ بِهِ النُّكْتَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَهِيَ مِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْبَيَانِ اقْتِبَاسُهَا، وَاسْتِعْمَالُ مِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِثْلَهُ فِي الْمَعْنَى، وَلَوْلَا هَذَا التَّنْبِيهُ لَمَا عُنِينَا بِنَقْلِ أَقْوَالِهِمْ فِي الْإِعْرَابِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمِنْهَاجِنَا.
وَقَوْلُهُ: {إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} تَذْيِيلٌ لِبَيَانِ أَنَّ مَا قَبْلَهُ هُوَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يُنْجِي فِي الْآخِرَةِ غَيْرُهُ، أَيْ: إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا يَدَّعُونَ وَيَحْلِفُونَ فَلْيُرْضُوا اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ، وَإِلَّا كَانُوا كَاذِبِينَ، وَفِي الْآيَةِ عِبْرَةٌ لِلْمُنَافِقِينَ فِي زَمَانِنَا كَكُلِّ زَمَانٍ، وَعِبْرَةٌ بِحَالِهِمْ لِمَنْ يَرَاهُمْ يَكْذِبُونَ وَيَحْلِفُونَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى تَأْكِيدِ أَخْبَارِهِمْ فِيمَا يُحَاوِلُونَ بِهِ إِرْضَاءَ النَّاسِ وَلاسيما الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ فِيمَا لَا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى بَلْ فِيمَا يُسْخِطُهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ، الَّتِي يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهَا بِأَخَسِّ الْوَسَائِلِ.
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا} الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّوْبِيخِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَالْمُحَادَّةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْحَدِّ وَهُوَ طَرَفُ الشَّيْءِ، كَالْمُشَاقَّةِ مِنَ الشِّقِّ وَهُوَ بِالْكَسْرِ الْجَانِبُ وَنِصْفُ الشَّيْءِ الْمُنْشَقِّ مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنَى الْمُعَادَاةِ مِنَ الْعُدْوَةِ وَهِيَ بِالضَّمِّ جَانِبُ الْوَادِي؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ يَكُونُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَمَّنْ يُعَادِيهِ عَدَاءَ الْبُغْضِ وَالشَّنَآنِ، بِحَيْثُ لَا يَتَزَاوَرَانِ وَلَا يَتَعَاوَنَانِ، فَشُبِّهَ بِمَنْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي حَدٍّ وَشِقٍّ وَعُدْوَةٍ، كَمَا يُقَالُ: هُمَا عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ، وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ يَكُونُونَ فِي الْحَدِّ وَالْجَانِبِ الْمُقَابِلِ لِلْجَانِبِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ لِعِبَادِهِ وَالرَّسُولُ لِأُمَّتِهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلاسيما الْجِهَادُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ وَإِعْلَاءِ شَأْنِهِمَا. وَالْعَاصِي وَإِنْ خَالَفَ أَمْرَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَنَهْيَهُمَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ لَا يَنْتَهِي إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ أَوِ الْعُدْوَةِ فِي الْبُعْدِ عَنْهُمَا، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ حُجَّةٌ لِمَنْ يُكَفِّرُونَ الْعُصَاةَ. وَجَهَنَّمُ دَارُ الْعَذَابِ وَتَقَدَّمَ هَذَا الِاسْمُ مِرَارًا.
وَالْمَعْنَى: أَلَمْ يَعْلَمْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ أَنَّ الشَّأْنَ وَالْأَمْرَ الثَّابِتَ الْحَقَّ هُوَ: مَنْ يُعَادِي اللهَ وَرَسُولَهُ بِتَعَدِّي حُدُودِ اللهِ، أَوْ بِلَمْزِ الرَّسُولِ فِي أَعْمَالِهِ كَقِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ أَوْ أَخْلَاقِهِ وَشَمَائِلِهِ كَقَوْلِهِمْ: هُوَ أُذُنٌ- فَجَزَاؤُهُ أَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَالِدًا فِيهَا لَا مُخْرِجَ لَهُ مِنْهَا {ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} أَيْ: ذَلِكَ الصَّلْيُ الْأَبَدِيُّ هُوَ الذُّلُّ وَالنَّكَالُ الْعَظِيمُ، الَّذِي يَتَضَاءَلُ دُونَهُ كُلُّ خِزْيٍ وَذُلٍّ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)}
أخرج أبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه {ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله} قال: يعادي الله ورسوله.
وأخرج أبو الشيخ عن يزيد بن هرون قال: خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال في خطبته: يؤتى بعبد قد أنعم الله عليه وبسط له في الرزق، قد أصح بدنه وقد كفر نعمة ربه، فيوقف بين يدي الله تعالى فيقال له: ماذا عملت ليومك هذا وما قدمت لنفسك؟ فلا يجده قدَّم خيرًا، فيبكي حتى تنفد الدموع ثم يعيَّر ويخزى بما ضيع من طاعة الله، فيبكي الدم ثم يعير ويخزى حتى يأكل يديه إلى مرفقيه، ثم يعير ويخزى بما ضيع من طاعة الله فينتحب حتى تسقط حدقتاه على وجنتيه وكل واحد منهما فرسخ في فرسخ، ثم يعير ويخزى حتى يقول: يا رب ابعثني إلى النار وارحمني من مقامي هذا. وذلك قوله: {أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم} إلى قوله: {العظيم}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)}
قوله تعالى: {أَلَمْ يعلموا}:
الجمهورُ: على {يَعْلموا} بياء الغيبة رَدًّا على المنافقين.
وقرأ الحسن والأعرج: {تَعْلموا} بتاء الخطاب. فقيل: هو التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب إن كان المرادُ المنافقين. وقيل الخطابُ للنبي عليه السلام، وأتى بصيغةِ الجمع تعظيمًا كقوله:
وإن شِئْتِ حرَّمْتُ النساءَ سواكم

وقيل: الخطابُ للمؤمنين، وبهذه التقادير الثلاثةِ يختلف معنى الاستفهام: فعلى الأول يكونُ الاستفهامُ للتقريع والتوبيخ، وعلى الثاني يكون للتعجبِ مِنْ حالِهم، وعلى الثالث يكون للتقرير.
والعِلْم هنا يُحْتمل أن يكون على بابِه فتسدَّ أَنْ مسدَّ مفعولَيْن عند سيبويه، ومسدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش، وأن يكونَ بمعنى العرفان فتسدَّ أنَّ مسدَّ مفعول. ومَنْ شرطية و{فَأَنَّ لَهُ نَارَ} جوابُها، وفتحت أنَّ بعد الفاء لِما عُرِف في الأنعام والجملة الشرطيةُ في محلِّ رفعٍ خبرِ أنَّ الأولى.
وهذا تخريجٌ واضحٌ وقد عدل عن هذا الواضحِ جماعةٌ إلى وجوهٍ أُخرَ فقال الزمخشري: ويجوز أن يكونَ {فأنَّ له} معطوفًا على أنه على أنَّ جوابَ مَنْ محذوفٌ تقديره: ألم يعلموا أنَّه مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ ورسولَه يُهْلَكْ فأنَّ له.
وقال الجرمي والمبرد: أنَّ الثانيةُ مكررةٌ للتوكيد كأن التقدير: فله نارُ جهنم، وكُرِّرت أنَّ توكيدًا. وشبَّهه أبو البقاء بقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء} [النحل: 119]، ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} قال: والفاءُ على هذا جوابُ الشرط.
وقد رَدَّ الشيخ على الزمخشري قولَه بأنهم نصُّوا على أنه إذا حُذِف جوابُ الشرط لَزِم أن يكونَ فعلُ الشرط ماضيًا أو مضارعًا مقرونًا بلم، والجوابُ على قولِه محذوفٌ، وفعلُ الشرطِ مضارع غيرُ مقترنٍ بلم، وأيضًا فإنَّا نجدُ الكلامَ تامًا بدون هذا الذي قدَّره.
وقد نُقِل عن سيبويه أنه قال: الثانيةُ بدلٌ من الأولى، وهذا لا يَصِحُّ عن سيبويه فإنه ضعيف أو ممتنع. وقد ضعَّفه أبو البقاء بوجهين، أحدهما: أنَّ الفاءَ تمنعُ من ذلك، والحكمُ بزيادتِها ضعيفٌ. والثاني: أنَّ جَعْلَها بدلًا يوجب سقوط جواب مَنْ مِن الكلام.
وقال ابن عطية: وهذا يُعْتَرَضُ بأنَّ الشيءَ لا يُبدل منه حتى يُسْتوفى، والأُْولى في هذا الموضع لم يأتِ خبرُها بعدُ، إذ لم يأتِ جوابُ الشرط، وتلك الجملةُ هي الخبر. وأيضًا فإنَّ الفاءَ تمانعُ البدلَ، وأيضًا فهي في معنى آخرَ غيرِ البدل فيقلقُ البدل.
وقال بعضهم: فيجب على تقدير اللام أي: فلأنَّ له نار جهنم وعلى هذا فلابد من إضمار شيءٍ يتمُّ به جواب الشرط تقديره: فمُحادَّتُه لأنَّ له نارَ جهنم.
وهذه كلُّها تكلُّفاتٌ لا يُحتاج إليها، فالأولى ما تقدم ما ذكره: وهو أن يكونَ {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} في محلِّ رفعٍ بالابتداء والخبرُ محذوفٌ، وينبغي أن تقدِّرَه متقدمًا عليها كما فعل الزمخشري وغيرُه أي: فحقٌّ أنَّ له نارَ جهنم. وقدَّره غيرُه متأخرًا أي: فأنَّ له نارَ جهنم واجبٌ. كذا قدَّره الأخفش. ورَدُّوه عليه بأنها لا يُبتدأ بها، وهذا لا يُلْزِمُه فإنه يُجيز الابتداء بأنَّ المفتوحةِ من غير تقديمِ خبر، وغيرُه لا يُجيز الابتداءَ بها إلا بشرطِ تقدُّمِ أمَّا نحو: أمَّا أنك ذاهبٌ فعندي أو بشرطِ تقدُّمِ الخبر نحو: عندي أنَّك مُنْطَلق.
وقيل: فأنَّ له خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: فالواجبُ أنَّ له. وهذه الجملةُ التي بعد الفاء مع الفاء في محلِّ جزم جوابًا للشرط.
وقرأ أبو عمرو فيما رواه أبو عبيدة والحسن وابن لأبي عبلة {فإنَّ} بالكسر وهي قراءةٌ حسنةٌ قوية، تقدَّم أنه قرأ بها بعضُ السبعة في الأنعام، وتقدَّم هناك توجيهُها.
والمُحَادَّة: المخالفةُ والمعاندةُ ومجاوزةُ الحدِّ والمعاداة. قيل: مشتقةٌ مِن الحدّ وهو حَدُّ السلاح الذي يحارَبُ به من الحديد. وقيل: من الحدّ الذي هو الجهةُ كأنه في حدٍّ غيرِ حدِّ صاحبهِ كقولهم: شاقَّه أي: كان في شقٍ غيرِ شقِّ صاحبه. وعاداه: أي كان في عُدْوَة غيرِ عُدْوَته.
واختار بعضُهم قراءةَ الكسرِ بأنها لا تُحْوِج إلى إضمار، ولم يُروَ قولُه:
فَمَنْ يكُ سائلًا عني فإني ** وجِرْوَةَ لا تُعارُ ولا تُباعُ

إلا بالكسرِ، وهذا غيرُ لازمٍ فإنه جاء على أحد الجائزين. و{خالدًا} نصبٌ على الحال. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)}
مَنْ كَفرَ بالله واشرك في توحيده بإثباتِ موهوم استحق ما هو حقٌّ لله: تعَجَّلُ عقوبته في الحال بالفُرقة، وفي المآلِ بالخلود في الحرقة.
فليس كلُّ مَنْ مُنِي بمصيبة يعلم ما ناله من المحنة، وأنشدوا:
غَدًا يَتَفَرَّقُ أهلُ الهوى ** ويكْثُر باكٍ ومُسْتَرْجِع

اهـ.